محمود سعيد.. التحليق أعلى الأسوار

إيمان علي 10 مايو 2022 السينما التشكيلية..سحر الصورة

الكاتب : إيمان علي
الأرشيف الفوتوغرافي للأدباء والفنانين (2) محمود سعيد.. التحليق أعلى الأسوار في الأرشيف الفوتوغرافي لمحمود سعيد (1897 - 1964) صورٌ تتصدّرها قصور وحدائق ملكية والحشائش النظيفة في رحلات الصيد أو ساحات التريض مع الخيول، يجذب فيها النظر رجل أنيق دومًا بنظارة مستديرة ميّزته، فاردًا قامته بهيئة وملامح محمولة بنبالة تليق بسليل عائلة أرستقراطية ناسبت الملوك والأمراء.


صورٌ يظهر فيها أفراد العائلة والأقارب والأبناء والأحفاد والأشقّاء وأولادهم وسيكون سعيد قادرًا على الاحتفاظ بملامح حانية وقريبة إلى العامّة، وأبعد ما يكون عن التجهّم أو الاستعلاء. الحياتان اللتان عاشهما محمود سعيد، وتبدوان متناقضتين حياته في شبابه مخلصًا للتقاليد الأسرية والاجتماعية، والأخرى منساقًا لجموحه الفني وانطلاقاته وأفكاره التحرّرية، ستظهر في صوره كأب وجدّ، وفي لوحات البورتريه التي رسمها من صور حقيقية لأطفال العائلة. وأخيرًا في بنات لوحاته المنفلتات يحتفي بسُمرتهن وجمالهن "البرّيّ" الفطريّ، يعزّز استخدامه المميّز للألوان من تكوين الراقدات عاريات بأثداء نافرة في لوحاته. كيف يمكن أن نقرأ الفنان في صوره الفوتوغرافية لا لوحاته الفنية؟! وكيف جسّد البورتريه عند محمود سعيد صورة حيّة عن طموحه ورغباته وحياته التي تمنّاها؟!
برز اهتمام محمود سعيد برسم البورتريه أوّل ما فكّر واتّخذ خطوة التفرّغ للفن. بينما تقول المصادر التاريخية بأنه في عام 1919، اتّخذ سعيد خطوته الأولى في رسم "البورتريه الشخصي" أو الذاتي. بعد هذه اللوحة وقبلها محاولات قليلة في رسم المناظر الطبيعية؛ آمن بأنه لا يمكنه أن يعيش لشيء آخر غير الفن. في عام 1924 سيرسم بورتريهًا ذاتيًا آخرا بعد تعافيه من التيفويد، وسيُطلق على اللوحة اسم "الرسول". هذه اللوحة الشهيرة؛ كانت من أوائل اللوحات التي اشترتها الحكومة المصرية بعد قيام الثورة بسنوات. بتاريخ 1930 سيرسم بورتريهًا شخصيًا ثالثًا بعنوان "استبطان". نائب المحامي العام في المحكمة المختلطة كان يكره الأجواء المفروضة عليه كموظّف حكومي رتيب، لكنه كان شغوفًا بمراقبة ما ومن حوله. استدعت ذاكرته زميله البلجيكي في العمل ورسم له لوحتين، كان ذلك في العام 1923، صوّر فيهما انطباعاته عن "رجل غريب، شدّني لرسمه شدًّا". لم يكن الموظّف بعيون الفنّان يعلم عن حياة زميله الشخصية شيئًا، لكنه كان مدفوعًا بغرابة أطواره فرسمه "وهو على وشك السقوط في هاوية"، ويبدو أن سعيد كان مُحقًّا في انطباعاته، وأن تلك الصورة الذهنية في رسم الرجل بدت صادقة وأقرب إلى ما حدث في الحقيقة والواقع. سنعرف أن سنوات معدودة ستمرّ وسيُطرد هذا البلجيكي من عمله بسبب تاريخ سابق مع السُكر ولعب القمار. يحكي محمود سعيد لقرّاء مجلّة المصوّر أن الرجل سوّى أوراق نهاية الخدمة وعاد إلى بلجيكا، ترك المحاماة بالطبع وعمل في "بار"، ثم دخل السجن لأمرٍ ما يتعلّق بمشاكله التي لا تنتهي، ثم خرج، وانتهت حياته بطريقة درامية تُطابق ما كان سعيد يتنبأ به، "مات وهو ينفخ البوق مؤدّيا استعراضا لفرقة موسيقية سياحية في بلدته".
هكذا مارس الفنان هوايته وشغفه في الفن بالاقتراب من حياة الناس العادية، ومراقبة البشر من "العامّة". أوّل ما رسم بحسب إشارته، كان "أسطى فرج" البوّاب، ثم رسم أصدقاءه، أفراد عائلته، والأحفاد. تقاعد محمود سعيد في سنّ الخمسين، بعد 25 عامًا قضاها موظّفًا مرموقًا في السلك القضائي، ليحتمي أخيرا بالفنّ، "الملاذ الآمن والمقدّس" كما وصفه. قبل ذلك، لم يقو على ترك شغفه نهائيًا، كان قاضيًا في الصباح ورسّامًا في المساء، كان يمارس الرسم في أوقات فراغه التي كانت قليلة ومعدودة. في الخمسين، في هذا العمر الذي يبدو في حكم العُرف متأخّرًا؛ قرّر محمود سعيد الفرار من قيود الوظيفة الحكومية التي كانت "اختناق" على حدّ تعبيره، متجاوزًا أسوار قاعات المحاكم بعدما أصبح حرًّا من قيود العائلة وتحفّظاتها.. تخطّى الأسوار المخملية للحياة الأرستقراطية، وقرّر أن مكانه هناك في مرسمه بالقصر الفخيم للأسرة، "الوقت الذي كنت أقضيه في الأستديو كان يمنحني حياةً"؛ يكتب إلى مجلة المصوّر مقالًا بعنوان "قصّتي مع الفن"، نشر في العدد بتاريخ 6 إبريل 1951. وكتب أيضًا: "بدأتُ أخيرًا في هذا العمر تنفّس الحريّة بالرسم"، "لم أجد نفسي إلّا في الرسم، بعد رحلة التحدّي التي جُبلتُ على خوضها".
لن يتوقّف منذ ذلك الحين عن إنتاج اللوحات الفنية، وسيحظى باحترام وتقدير الوسط الفني والثقافي في مصر، ستكون الجماعة السريالية في مصر، "جماعة الفن والحرية" حريصةً على جذبه إلى معارضها واستضافته في مناسباتها الفنية، سيكون اسم محمود سعيد إضافةً إلى الحركة الفنية في ذلك العصر، وسيُحسن استغلال إمكانيات وضعه الاجتماعي المرموق، في أن يجوب العالم كله، فيقف على كل جديد وعصري في الفن والأدب. سيظل محتفظًا بهذا التوهّج، مثلما تشير شهادات الفنانين الذين عاصروه أو المتخصصين في الفنّ، حتى آخر يوم في عمره. أطبق محمود سعيد عينيه في غفلة الموت وهو على سرير المرض يحتفل بعيد ميلاده الـ 67 كان محاطًا بالعائلة، ومع ذلك كان موته في تلك اللحظة مُفاجئًا ومُحزنًا. اُسدل الستار على حياته الفنية التي امتلأت بأعمال متواصلة بلا انقطاع. يكتب سعد الخادم في مجلة الثقافة في إبريل عام 1964 عن ذلك "الفنان البارز الذي امتلك شخصية متميّزة". لقد انتبه مبكّرا إلى تخطّي أساليب الفنانين الأوروبيين في الرسم التي كانت معروفة في مصر. في رثائه نعى الخادم حساسية الفنان وتواضعه وإنكاره للذات فيما يتبارى فنانون عديدون ويتفنّنون في تسليط الأضواء عليهم، وكيف كان مثالًا لمدة تجاوزت ربع القرن، للفنانين المبتدئين أو لأيٍّ ممن يمكن أن يخجل من بداياته الفنية.
بورتريهات محمود سعيد؛ حوارٌ مع روحه الداخلية، وكشفٌ لأسرارها. تُغلّفها نغمةٌ درامية نابعة من أفكار وقيم إنسانية. يظهر ذلك جليا من البورتريه الذي رسمه لجورج خوري في عام 1921، وهذا الأخير واحد من أعلام مؤسسي السينما المصرية. في هذا البورتريه أعطى سعيد الألوان والتكوين انطباعاته عن السينما في مصر في ذلك الوقت.. الوجه بملامح وإيحاءات متجانسة، والظلام الذي يحف باقي الجسد بغموض مثير. ركّز الفنان على عينيّ خوري الفائضة بذكاء حاد، وقد عبّر عنه بحاجبين حادين.. تكتب راوية الشافعي في مقالة بعنوان “أيقونة الهوية المصرية: جولة في لوحات محمود سعيد”: “الشفاه بأحمرٍ قانٍ، بما يتناقض مع مظهر الرجال الشرقيين، تعكس نظرة نقدية لمحمود سعيد للسياق الغربي للسينما المعاصرة، وإلى أي مدى انتُزع عن خصائص المجتمعات الشرقية، والمجتمع المصري على وجه الخصوص”.
***
من الإسكندرية، في إبريل من عام 1897، نجلًا لرئيس الوزراء السابق محمد سعيد باشا، جاء محمود سعيد إلى الدنيا. الأبوان مصريّان من أصول تركية وشركسية والتعليم في الطفولة المبكّرة يناله سعيد الابن منزليًّا على يد مدرّسين خصوصيين، ثم يتنقّل بين مدارس مرموقة عديدة: فكتوريا كوليدج، آباء الجيزويت، مدرسة العباسية السعيدية الثانوية، قبل الحصول أخيرًا على بكالريوس الحقوق من مدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة، كان ذلك في العام 1919، وبحلول 1921 كان قد عُيّن قاضيًا في المحاكم المختلطة - المحاكم التي يتجاور فيها قضاة مصريون وفرنسيون وإنجليز – أولًا في المنصورة ثم في الإسكندرية. بعد خدمة طويلة في القضاء سيهب محمود سعيد نهائيًا حياته، أو ما تبقى منها، للفن، عشقه وهوايته الأبدية.
"الرسم هو أمل شبابي، هو ما كنتُ أبحث عنه"، يقول في حوار بتاريخ 1936 في مجلة "الأسبوع المصري" الفرنسية. يُعرف محمود سعيد حاليًا كواحد من الآباء المؤسسين للفن المصري الحديث في التصوير الزيتي، ويعدّ رمزًا محوريًا لعصر النهضة، فيما بين القرنين الـ19 والعشرين. رسومه الأنيقة أبرزت الجمال في مصر وناسها، و«عكست الهوية المصرية وتكيّفها المستبدّ مع الحداثة والاستقلال». يتذكّر في الحوار معلّمه الأوّل، الفنان الإيطالي مستر دافورنو كازوناتو، فضلًا عن حصص أرتورو زانيري في عام 1916، والفنانين الإيطاليين البارزين، كليهما تخرّجا من أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا. انطلق بعدها محمود سعيد في إنتاج مجموعته الخاصة من الرسوم. يقف المعلّقون والمتذوّقون الفنيّون كثيرًا أمام استخدامه الفريد للون والضوء، ومقاربته الابتكارية للبورتريه عبر مقدرته على "حفر" عواطفه وانفعالاته وروحه في اللوحة. رسم أكثر من خمسين لوحة للمرأة عارية، و50 لوحة لسيّدات من عامة الشعب ما بين موديلات وخادمات وراقصات وبنات بحري المنحلّات .. "هدم محمود سعيد جدران الأعراف والتقاليد، وتحدّى توقّعات المجتمع عن خلفيته الاجتماعية المرموقة، ليُعبّر عن فطنته بجوهر المرأة المصرية".
دأب سعيد على إنتاج اسكتشات وبورتريه من الحياة الواقعية. أزاح امتيازه وواجهته الأرستقراطية فور استقالته من الوظيفة الحكومية. كان دائم التجوّل بين متاحف العالم، والأتيليه هنا وهناك، في الصين وباريس، حضر دروسًا في اللوفر، وقسم الدراسات الحرّة في "جراند تشومير"، وأكاديمية جوليان، عقب زواجه في 1922 واصل رحلاته نهاية كل أسبوع إلى هولندا، بلجيكا، سويسرا، أسبانيا، إيطاليا، "ظللتُ معلّقا بين متاحفها وكنائسها" يقول في الحوار مع جين موسكاتيللي من الصحيفة. خطفته أضواء ريمبرانت السحرية في لوحاته، لم يتأثّر كثيرا بفناني فينيسيا عدا اثنين: جيوفاني بيليني، المصور الإيطالي من فناني عصر النضة، وكارفاجيو. في هذا اللقاء الذي تمّ في قصره في الإسكندرية؛ تحدّث سعيد عن ارتباطه بالأدب، على عكس الشائع عن الفنانين عادة تجاهلهم للأدب. محمود سعيد كان قارئًا جيّدًا للأدب، تكلّم عن تفضيلاته لدستويفسكي ومارسيل بروست في الروائيين، ومن الشعراء بودلير، أما في الموسيقى فـ"أنا أسير بتهوفن، باخ، فاجنر وسترافينسكي" .. "لكنّي أحب ابنتي فوق هؤلاء"، يتدارك وهو ينهي هذا المقطع من الحوار القصير بالحديث عن ابنته "نادية" وكان عمرها في ذلك الوقت ثماني سنوات.
الابنة.. بطلة لوحات محمود سعيد عن العائلة، والوافدة الجديدة المدلّلة في الصور الفوتوغرافية. في عام 1928، أنجبت سميحة رياض قرينة الفنان ابنتهما الوحيدة نادية، التي ستتزوّج من حسن الخادم وتنجب ابنة ستسمّيها سميحة على اسم والدتها. رسم محمود سعيد ابنته الحبيبة في أربع مراحل مختلفة: في الأعوام 1933 و1937، 1942، و1946.
***
هنا صورة الجدّ وذكريات الأحفاد. يتذكّر ميخائيل شاميل أورلوف - في حوار بالفرنسية عبر سكايب في أغسطس 2016، بين موسكو ودبي مع فاليري ديدييه هس- أحد أبناء الأميرة فادية ابنة الملكة فريدة، على خلفية الصورة التي تجمعه بجدّتيه: الملكة ووالدتها زينب سعيد ذو الفقّار شقيقة الفنّان. تاريخ الصورة يرجع إلى بدايات السبعينات في هولندا. الملكة فريدة هاجرت مصر نهائيًا بكثير من الأسى وفائض من الحنين. توفي محمود سعيد قبل عامين من مولد ميخائيل هذا، ولد ميخائيل في 2 سبتمبر 1966 بينما توفي سعيد في 8 إبريل 1964، لكنه، ميخائيل، شهد سيرة الفنان في حكايات الجدّة (ابنة أخت محمود سعيد والملكة لاحقًا)، وكذلك في اللوحات. فقد دأب محمود سعيد في الخمسة عشر عامًا الأخيرة من حياته على رسم أفراد عائلته من جميع الأجيال، بورتريهات حميمة ودافئة وحانية. لوحته للملكة فريدة (صافيناز ذو الفقّار) وهي في عمر الست سنوات، التي رسمها في عام 1927، وأخرى لابنتها فادية وهي في نفس العمر أو في التاسعة تقريبًا، وكان ذلك في عام 1952، تعتبران اللوحات الفنية المتاحة والمعروفة حتى اليوم عن العائلة الملكية في مصر. وله بورتريهًا لشريف ذو الفقار، شقيق الملكة فريدة.
ولدت الأميرة فادية في عام 1943 وقد انتصفت أربعينات محمود سعيد، وتُرجّح حكايات ولدِها عن الملكة جدّته أن لوحة "الجمال الأسود" رسمها محمود سعيد بوحي من فادية وإهداء لها. في اللوحة التي يرجع تاريخها إلى العام 1947 وفيها يتجسّد جموح صغيرِ الحصان (عِشق الأميرة) بسواد لامع في مشهدٍ حالم بالألوان الزيتيّة المميّزة، يُقال إنه تأثّر بارتباط الأميرة الصغيرة بحصانها. كتب الإهداء باسمها "هذه سوناتا ضوء القمر"، في إشارة إلى تحفة بتهوفن، لا سيما أن الفنان اختار مشهد انعكاس ضوء القمر على سطح الماء خلف الحصان، ويُرجّح أنه الشاطيء أمام قصر المنتزه، الذي عاشت الجدّة والحفيدة، جزءًا من طفولتهما فيه.
كان لمحمود سعيد عظيم التأثير على ابنة أخته. لقد عشقت الملكة فريدة هي الأخرى الفن والرسم مثل خالها. بتعبيراته هو نفسه في أكثر من موضع كان يقول إنه والملكة والأميرة جيل العائلات الأرستقراطية الملكية الذي "أطلق نفسه من الأغلال". عقب 1952؛ لم يستطع أفراد العائلة تجاوز المحنة، ظلّ الحنين يُقلّبهم كطنين أبديّ كانوا حزانى" كما يحكي ميخائيل ابن فادية. وهذه الأخيرة كانت من أواخر "بنات" العائلة اللاتي يرحلن خارج أرضهن الأمّ، في ديسمبر عام 2002. يتذكّر ميخائيل مشهد استقبال الجثمان على أرض مطار القاهرة: "حشدٌ لا يُصدّق. رغم التراجيديا وحزني على فقد أمي، لكن ظل هذا المشهد واحدا من أسعد لحظات حياتي، لم أصدّق مدى حفاوة الشعب المصري".
"التحليق أعلى أسوار القصور" أو البحث وراء ما تحجبه الأسوار، هو التعبير الذي استخدمه الحفيد لوصف حياة جدّه الفنان التي تحفظها الذاكرة، وكان سبيله للانعتاق من كل الأعراف هو الفن. وهذه الرغبة ذاتها في الهرب من قسوة القصر وصرامة الحياة "النبيلة" وجو المؤامرات، هي ما دفع فريدة للموافقة على الارتباط بفاروق وهما في أعمار ما بين الـ16 والـ17.
وماذا عن زينب ذو الفقار، إحدى شقيقات محمود سعيد! في ذاكرة حفيدها كانت "نينة" اللطيفة للغاية، دائما مبتسمة وحنونة وهادئة، وكانت محبوبة من الجميع. توفي زوج زينب، يوسف ذو الفقار سريعا في عام 1956، أحبّته بجنون وظلت باقية على عهده. يتذكّر الحفيد أيضا "خِيلانه"، أشقّاء الملكة فريدة: شريف وسعيد وإسماعيل. وهم موجودون في لوحات سعيد أيضًا، كانوا أصدقاء ومُجايلين له.
غادرت الملكة فريدة مصر نهائيًا في عام 1964، أقامت في البداية في بيروت ثم في باريس في الفترة ما بين 1968 وحتى 1974، كانت طوال تلك الفترة "ترسم". يقول ميخائيل أن جدّته الملكة بدأت في الرسم أواخر الخمسينيات، في الفترة التي توهّج فيها نجم محمود سعيد في العالم. "كان واحدًا من هؤلاء الذين غذّوا رغبتها في الفنّ" يقول ميخائيل. كانت الملكة قد حضرت إلى مصر في عام 1956 في زيارة خاطفة، وقابلت خالها محمود سعيد، ويبدو أنه تعرّف إلى خطواتها الخجولة في عالم الفن، وشجّعها بقوّة: "لا أحد يستطيع أن ينزع عنك مهاراتك الفنيّة".. تستمر حكايات الحفيد وهو يؤكّد أن جدّه الأكبر اقنع جدّته بأن الفن هو البوابة لنوع من الحرية والوصول إلى أبعاد في الشخصية والحياة لا يصلها غير الفنان بسهولة، وربما لا يصلها أبدًا. اكتشف محمود سعيد الجمال الكامن في المرأة، الجمال المدفون وأزاح عنه الغبار، ومجّد التغنّج بالجسد والغواية، وكان لهذا أكبر الأثر في رغبة الملكة فريدة التحرّر من حياتها المحاطة بالأسوار في القاهرة. "اتذكّر لوحات لعاريات محمود سعيد العديدات ظلّت معلّقة في مكان بارز فوق سرير جدّتي في غرفة نومها في شقّتها الصغيرة في المعادي"، يحكي ميخائيل عن السنوات الأخيرة للملكة فريدة في مصر بعد إخلاء العائلة المالكة القصور بعد ثورة 1952.
شارك سعيد حبّ الملكة "الجيني" لمصر وناسها، وكان الرسم وسيلتهما للتعبير عن ذلك العشق. لا تُعرّفنا خزانات الأرشيف على لوحات بتوقيع الملكة فريدة، لكن الحكايات كلها كثّفها سعيد في لوحاته للعائلة. يعود ميخائيل للتذكّر: "خسرتْ جدّتي كل شيء مرّتين، الأولى في القاهرة بقيام الثورة، والثانية في بيروت مع الحرب الأهلية عام 1975، لم تشتك من شيء، علّمها محمود سعيد كيف تنتقل من حالة المخلوق للخالق".
كانت والدته، الأميرة فادية، في التاسعة من عمرها عندما قامت ثورة الضبّاط. أجبرت الملكة فريدة على الابتعاد عن بناتها الثلاث، بعد طلاقها من الملك في عام 1948، رحلت فادية مع والدها واخوتيها إلى إيطاليا، وتطلّب الأمر خمس سنوات لاحقة حتى رأت الملكة ابنتها فادية مرة أخرى. حضرت الملكة زواج ابنتها من سليل عائلة أورلوف التي تحتفظ بأرشيف فوتوغرافي هائل للعائلة الملكية، انعقد الزواج في لندن في فبراير من العام 1965، وبعدها بشهر تجمّعت العائلة الملكية جميعها في جنازة الملك فاروق في روما في الثاني والعشرين من مارس عام 1965.
* هذا العرض - والصور المُلحقة - اعتمد على النسخة الإنجليزية من كتالوج ريزونيه "الكاتالوج المُسبّب أو الموثّق لمحمود سعيد". حرّره فاليري ديدييه هس الخبيرة الفنية الفرنسية وحسام رشوان الباحث الفني من مصر. الطبعة الأولى، منشورات "سكيرا"، إيطاليا في 2016.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات