الكاتب : أندرو محسن
فى “أوديسا الفضاء”
كوبرك يعيد تعريف الخيال العلمي
في قائمة أكثر الأفلام تحقيقًا للإيرادات في التاريخ، يحتل فيلم ”Star Wars: The Force Awakens“ (حرب النجوم: يقظة القوة) المركز الثالث بإيرادات تتجاوز الملياري دولار، وهو رقم لم تنجح إلا أربعة أفلام فقط في تحقيقه.
في نهاية عام 2015، كان عشاق السينما على موعد مع هذا الفيلم، الذي لا يمكن حصره في إطار الفيلم الجماهيري، بل هو استعادة لذكريات شرائح عمرية مختلفة، فهو السابع في سلسلة ”حرب النجوم“ التي بدأت عام1977 وحققت نجاحًا ضخمًا، أغرى صناعها بتقديم المزيد من الأجزاء.
لكن صناعة هذه السلسلة، بكل ما جاء فيها من إبهار بصري لم يكن ممكنًا على الإطلاق دون وجود فيلم قوي يعيد تعريف نوع ”الخيال العلمي“ لدى المشاهدين والنقاد على حد سواء بأرضيات جديدة غير مسبوقة، تصبح طريقًا ممهدة لكل من يأتي بعدها.
كان الحل في يد مخرج استثنائي، يصنع أفلامًا مُخلصة بدرجة كبيرة إلى مفهوم النوع (Genre) وفي الوقت نفسه يتحرك داخله بحرية ليعيد تشكيله ويصنع عملًا يثير الكثير من الخلافات والدراسات التي لا تنتهي.
في عام 1968 أطلق المخرج الأمريكي ستانلي كوبرك فيلمه الطويل الثامن ”2001: A Space Odyssey“ (2001: أوديسا الفضاء)، والآن بعد مرور أكثر من خمسين عامًا على هذا العمل، لا يزال أيقونة تستحق الدراسة والتأمل من كافة الجوانب.
لن نفسر ابتسامة الموناليزا
”كيف كنا سنقدر الجيوكاندا (الموناليزا) إذا كان ليوناردو (دافنشي) قد كتب عليها: ”إن هذه السيدة تبتسم ابتسامة خفيفة لأن لديها مشكلة في أسنانها، أو لأنها تُخبئ سرًا عن عشيقها“؟ كان هذا سيقلل تقدير المُشاهد، ويقيده بواقع مخالف لواقعه.
لا أود أن يحدث هذا مع 2001 (أودسيا الفضاء)“
ستانلي كوبرك، ردًا على سؤاله عن تفسير لرؤيته في الفيلم.
سنتبنى هنا نظرية كوبرك، ولن نسعى لتفسير المعاني المقصودة في الفيلم .. لكننا سنكتفي بالتركيز على ما قدمه المخرج من طفرات لتنفيذ فيلمه ليخرج بهذا الشكل المثير للتأمل.
أغلب مشاهد هذا الفيلم كانت نتيجة لتطوير تقنيات سينمائية خاصة لم تستخدم من قبل آنذاك، أو على الأقل لم تستخدم بهذه الصورة، ومن بعد الفيلم أصبحت الكثير من هذه التقنيات جانبًا أساسيًا في الكثير من أفلام الخيال العلمي.
ما قبل أوديسا الفضاء
رعاة بقر ومجرمون مطلوبون أحياءً أو موتى وشريف يبحث عنهم للحصول على مكافأة مجزية تلك كانت الملامح المميزة لأفلام الغرب الأمريكي (Western) التي شهدت أقوى فترات ازدهارها في الستينيات، وتركت بعض العلامات السينمائية التي لا تُنسى.
نحن على الأرض، والسينما تفتش في الماضي المتمثل في هذا الغرب الأمريكي، أو في الماضي الأبعد لتقدم أفلامًا مثل كليوباترا، بينما لا زالت الحرب العالمية والحرب الباردة تلقيان بظلالهما على السينما أيضًا.
وسط هذه الأجواء، كانت أفلام الفضاء أو الخيال العلمي لا تتعدى محاولات بسيطة أغلبها يدور عن السفر لأحد الكواكب، واللقاء بكائنات فضائية متوحشة مثل: ”First Men in the Moon“ (أول الرجال على القمر) (1964)، أو تجربة معملية خيالية مثل ”Fantasic Voyage“ (رحلة رائعة) (1966).
لم يكن الإنسان قد خطى خطواته الأولى على القمر بالفعل، أو وصل للصور والمعلومات الأكثر دقة التي وصل إليها بعد ذلك، وبالتالي كان صناع السينما يستكشفون الفضاء على استحياء ويغالون في خيالاتهم.
على المستوى التقني لم يكن الأمر يتعدى الخدع التقليدية والرسوم المتحركة واستخدام الخلفيات الملونة الظاهر زيفها للعين، بجانب الأقنعة والأزياء المصممة بشكل بسيط لتقديم الشخصيات الخيالية .. ثم جاء ستانلي كوبرك.
في عدة أفلام سابقة له كان كوبرك يقدم نوعًا سينمائيًا مختلفًا، يُخلص للكثير من قواعده، ويترك فيه علامة ثم ينتقل للنوع التالي.
فعلها من قبل مع “Spartacus” الذي ينتمي لأفلام السيف والصندل، ومن قبله فيلم ”Paths of Glory“ (طرق المجد) الذي ينتمي لأفلام الحرب، في كل مرة يقدم فيلمًا يمكن تصنيفه بسهولة داخل إطار النوع الذي ينتمي إليه، لكنه يظل عملًا يمكن تحليله على المستوى الفني واستكشاف استخدامات المخرج المميزة للعدسات المختلفة والدقة الشديدة في تكوين اللقطات والإحساس الواضح بالزمان والمكان.
الآن جاء الدور على أفلام الخيال العلمي، وبأريحية شديدة يمكن التأريخ لأفلام هذا النوع بـ ”قبل أوديسا الفضاء وبعد أوديسا الفضاء“.
الخيال العلمي.. المحطة التالية
بعد انتهائه من فيلم ”Dr. Strangelove or: How I Learned to Stop Worrying and Love the Bomb“ (د. سترينجلوف أو: كيف تعلمت التخلي عن القلق وعشق القنبلة) الكوميديا السوداء الموجهة للسخرية من الحرب الباردة، والذي حقق نجاحًا كبيرًا على مستوى الجمهور والنقاد، اهتم كوبرك بفكرة الكائنات الفضائية والتي كانت ما تزال في بداياتها مع الخطوات المحدودة في عالم الفضاء التي قطعها الاتحاد السوفيتي وأمريكا.
هكذا بدأ في قراءة الكثير من روايات وقصص الخيال العلمي بحثًا عن تلك التي يمكن تحويلها إلى فيلم إلى أن عثر على فكرة جيدة في القصة القصيرة ”The Sentinel“ (الحارس) للكاتب
الإنجليزي آرثر س. كلارك، لكنها لم تكن تكفي لصناعة الفيلم الذي يريده بل مجرد مدخل احتوت هذه القصة على الحجر الضخم المصقول الذي سيظهر في الفيلم بالفعل.
لما كان كوبرك يفضل العمل من أصول أدبية، فلماذا لا يكتب رواية خصيصًا لتحويلها إلى فيلم؟ هكذا عمل مع كلارك على تطوير وكتابة الرواية التي نُشرت في نفس عام عرض الفيلم وحملت نفس الاسم، لكن باسم آثر س. كلارك فقط على غلافها، وبُني الفيلم عليها، وبالتزامن مع كتابتها كان العمل على السيناريو أيضًا، في شكل مشابه إلى حد ما لما حدث مع فيلم ”Metropolis“ (1927)، وربما هي من الحالات النادرة التي تُكتب فيها الرواية من الأساس لتُحول إلى فيلم. استمرت عملية الكتابة لسنتين تقريبًا حتى عام 1966 حين بدأ التصوير.
أراد كوبرك صناعة فيلم يستطيع الصمود ليس فقط فنيًا في عيون عشاق السينما، ولكن أمام النظريات العلمية أيضًا، ولا ينهار سريعاً أمام النظريات الأحدث، وهكذا استعان باثنين من علماء ناسا ليشرفا على الجانب العلمي، المتعلق بنظريات حركة الأجسام في الفضاء وشكل المجسمات وخلافه.
تحول الاستوديو إلى خلية نحل ضخمة تضم مصممين ونجارين وخبراء في مختلف المجالات، ووصل الأمر إلى حد أن أطلق أحد أساتذة ناسا على ستوديو MGM في لندن - حيث كان التصوير - ”ناسا الشرق“.
في البدء كان الظلام وفي المنتصف أيضًا
من يشاهد الفيلم للمرة الأولى سيفاجأ على الأرجح بافتتاحية الفيلم الطويلة التي تمتد لدقيقتين تقريبًا من الظلام نستمع فيها فقط إلى صوت الآلات الموسيقية وكأنها “تُدوزن” (تضبط نغماتها) في أداء مشابه لما يسبق الحفلات الموسيقية، وهذا قبل أن نشاهد علامة شركة MGM المنتجة، ومن بعدها الموسيقى المهيبة بآلات النفخ والإيقاعات المميزة التي نستمع إليها ونحن نشاهد أول لقطات الفيلم، الشمس البعيدة في خط واحد مع الجانب المظلم من الأرض، ويظهر أخيرًا اسم الفيلم.
ربما تمتد محاولات قراءة الفيلم لهذا الظلام الافتتاحي في محاولة لوضعه داخل إطار ما قبل فجر الإنسان (المشاهد الافتتاحية)، لكن الأمر كان مرتبطًا أكثر بوضع العروض في هذه الفترة في أمريكا وتحديدًا في الأفلام الملحمية أو التاريخية الطويلة التي تمتد لقرابة أربع ساعات.
أفلام مثل ”Beun Hur“ (1959) للمخرج ويليام وايلر، أو ”Spartacus“ (1960) لستانلي كوبرك، كانت تعامل معاملة حفلات الأوبرا، فتبدأ بمقدمة موسيقية طويلة قبل العرض، ما يطلق عليه Overture، تُلعب عادة والشاشة مظلمة أو والستار مُغلق. لكنها ليست أية موسيقى مثل الأغاني التي تُلعب في القاعات حاليًا قبل توافد المتفرجين.
كانت الموسيقى تؤلف خصيصًا لهذه الأفلام، وعادة ما تكون المقطوعة الافتتاحية بها الكثير من ملامح الموسيقى التصويرية للفيلم وتُهيئ المشاهد للحالة العامة التي هو مقبل على مشاهدتها. أودسيا الفضاء لم يكن فيلمًا طويلًا أو تاريخيًا، وإن حمل تاريخ البشرية من وجهة نظر صناعه، لكن كوبرك فضل افتتاحه بهذه الطريقة.
لم يكن هذا هو الملمح الوحيد المرتبط بتقاليد العرض في ذلك الوقت في هذا الشريط السينمائي، إذ نشاهد في منتصف الفيلم تقريبًا لوحة ”Intermission“ (استراحة)، والتي يليها إظلام أيضًا، وهو ما يستمر لمدة حوالي ثلاث دقائق على الشاشة.
كان تقليد وجود استراحة في منتصف الأفلام متبعًا في أمريكا في هذه الفترة، قبل أن يتوقف في الثمانينيات تقريبًا، لكن كوبرك وظف الاستراحة داخل الفيلم لتكون بمثابة مرحلة إنتقالية.
لا يأتي فاصل الاستراحة في منتصف الفيلم بالضبط بل بعد مرور ساعة ونصف تقريبًا من الفيلم الذي يمتد لقرابة ساعتين ونصف الساعة. تأتي الاستراحة مباشرة بعد قرار بطلي الفيلم بالانقلاب على الكمبيوتر الذكي ”هال“، ومشاهدتنا لهال وهو يراقب حركة شفاهما بما ينبئ بحدوث تطور خطير في مسار الفيلم. تأتي الاستراحة بعد هذا المشهد مباشرة وتتحول بعدها الأحداث كلية بالفعل وتأخذ طورًا آخر.
فجر الإنسان على الشاشة الضخمة
يمكن لأي مخرج حاليًا أن يصور ممثليه أمام الشاشة الخضراء، وبعد ذلك سيتحول ما خلفهم إلى المكان الذي يتمناه بكل التفاصيل التي يودها باستخدام الكمبيوتر، رجوعًا إلى عام 1966، لم يكن الأمر كذلك بالتأكيد.
الفصل الأول من الفيلم يأتي بعنوان ”فجر الإنسان“، هذا الذي يقدم رؤية صناع الفيلم للمراحل الأولى من البشرية، التي تسبق الطفرة التكنولوجية التي ستنقله للفضاء في المشاهد التالية.
تتابع هذه المشاهد جماعة من القرود التي تتعايش في منطقة صحراوية مليئة بالجبال، تصارع حيواناتٍ أقوى منها، كما تصارع بني جنسها.
لا يخفى على المشاهد بالتأكيد أن أغلب القرود ما هي إلا ممثلين يرتدون أقنعة وأزياء صناعية، لكن محاكاة حركة القرود لم تكن بهذه السهولة. حتى ينجح الممثلون في محاكاة القرود، أعطى كوبرك لأحد الممثلين كاميرا ليصور حركة القرود في حديقة الحيوان، ومن ثم يقلدها. اختيار الممثلين أيضًا لم يعتمد فقط على القدرة على تقليد الحركة بل كان هناك مراعاة لأن تكون أذرعهم طويلة حتى تناسب طبيعة أجسام القرود.
لم يكن هذا إلا الجزء السهل من المشاهد.
كان التحدي الأكبر للمخرج المهووس بالدقة، هو كيفية صناعة هذه المشاهد لتبدو حقيقية، كان خياره المبكر هو عدم التصوير في أماكن حقيقية، ليستطيع التحكم بشكل أكبر في كل تفاصيل المشهد من إضاءة وتكوين وبالتالي قرر التصوير في الاستوديو وهنا تكمن الصعوبة.
ربما يفاجأ القارئ الآن بأن ما شاهده في مشاهد ”فجر الإنسان“ كانت مصورة في الاستوديو، ولكن أي ستوديو هذا الذي يخرج الصورة بهذه القدر من الغِنى؟
التُقطت عدة صور للأماكن التي يود كوبرك أن تظهر كخلفية لمشاهده، وكانت الفكرة في كيفية وضعها كخلفية بالفعل، لتحقق عاملين مهمين: الأول ألا تبدو مصطنعة ومكشوفة للمشاهد، والثاني أن تحقق عمقًا في مجال الصورة وكأنه يستخدم عدسة ذات بعد بؤري صغير، تكشف الكثير من التفاصيل وتظل أغلب الصورة داخل “الفوكس”.
كان الخيار الأسهل بالتأكيد هو تصوير الممثلين أمام خلفيات مرسومة، لكن هذا بالطبع لم يكن سيقدم الصورة المليئة بالتفاصيل التي يريدها كوبرك، كما سيصنع مشاهد مسطحة تصدر الإحساس بأنها مصنوعة، كذلك عرض صور الأماكن من خلال بروجيكتور مباشرة على الخلفية لم يكن سيحقق عمق الصورة الذي يريده كوبرك، وهكذا جاءت الطريقة المتفردة لتصوير هذه المشاهد.
كان الحل المبتكر هو عرض الصور من خلال بروجيكتور على سطح عاكس، وهذا السطح يعكس الصورة على الخلفية الضخمة الموضوعة خلف الممثلين.
الأمر لم يكن بهذه السهولة إذ استلزم صناعة شاشة ضخمة بمساحة 12 X 27 مترًا لتستقبل انعكاس الصورة، مع وجود بعض الديكورات المصنوعة بالتأكيد مثل الصخور وغيرها لتعطي لإضافة المزيد من التفاصيل إلى المكان ومحاكاة الطبيعة بقدر أكبر، والصعوبة الأخيرة كانت في وضع الكاميرا وتصميم الإضاءة، إذ أن وضع الكاميرا على خط أفقي واحد مع الخلفية الضخمة كان يُمكن أن يُظهر انعكاس الممثلين على الخلفية وبالتالي يُفسد كل شيء، فكان الحل في وضع الكاميرا بزاوية جانبية لا تُظهر انعكاس الممثلين.
كان ”أودسيا الفضاء“ هو أول فيلم تُستخدم فيه هذه التقنية بهذا الشكل، وربما ليست من المبالغة إن قلنا أن هذه الطريقة التي كانت شديدة الصعوبة في تنفيذها، لا زالت تعطي أثرًا جيدًا لا يتقادم مع الوقت عكس التقنيات الأخرى الأحدث التي تظهر خفتها بمجرد ظهور تقنية أحدث.
السباق مع الزمن
كما ذكرنا، لم يكن الإنسان قد هبط على القمر بالفعل في ذلك الوقت، ولذلك كانت هناك الكثير من الاجتهادات العلمية والتصميمات القائمة على الافتراضات.
من ضمن أهم الجوانب التي حرص كوبرك على أن تظهر بدقة، شكل الفضاء الخارجي من ناحية، ومفهوم الجاذبية داخل سفن الفضاء المختلفة.
لم يكن أحد يعلم كيف تبدو الأرض فعليًا إذا نظرنا إليها من الفضاء الخارجي، ولهذا كان عليهم استعمال الخيال قليلًا. مرة أخرى لم يكن التحدي فقط في تخيل شكل الكرة الأرضية لكن في تنفيذها لتبدو داخل الفيلم بشكل مُقنع، ولهذا لم يكن الرسم التقليدي وعرضه على الشاشة هو الحل الأمثل.
توصل أحد المصممين إلى تقنية رسم ساعدته على تنفيذ سطح الأرض ليبدو أقرب ما يمكن للواقع، ولا يبدو زائفًا في الوقت نفسه أمام المشاهد. كانت هذه التقنية هي الرسم على الزجاج ثم كشط السطح بموسى الحلاقة لتترك التأثير اللامع المصقول، ومن ثم استخدمت الإضاءة في الخلفية لتظهر الأرض بالشكل الذي ظهرت عليه في الفيلم.
في السنوات اللاحقة تمكنوا من تصوير الأرض من الفضاء، كانت سعادة كوبرك بالغة لأن الشكل الذي قدمه في فيلمه لم يكن بعيدًا عن الشكل الحقيقي الذي ظهر لاحقًا، كانت الإضاءة أكثر قوة في فيلمه فقط.
لم تكن الأرض سوى “تفصيلة” واحدة في المشهد الذي ضم كلًا من: الأرض وسفينة الفضاء دائرية الشكل والمكوك، وجميعها في حالة حركة على الخلفية السوداء، مرة أخرى نحن في العام 1966 حين لم تكن الإمكانيات متاحة كما هي الآن.
لتنفيذ هذه اللقطة تم تصوير نموذج الكرة الأرضية على حامل تحريك، وهي تتحرك حركة بطيئة جدًا، بينما لم يكن المكوك إلا صورة فوتوغرافية ثابتة وصورتها كاميرا الفيديو مبتعدة عنها لتعطي التأثير بالحركة، ومجسم سفينة الفضاء البالغ قطره مترين تقريبًا صوّر أيضًا في حركته الدائرية بشكل منفصل، والأمر نفسه حدث مع الخلفية السوداء ذات النجوم إذ صورت بشكل منفصل.
كان التحدي يكمن في صناعة حركة هذه الأجسام لتبدو طبيعية، وهكذا جُرّبت أكثر من سرعة للوصول للشكل المطلوب.
حتى يتأكد كوبرك من السرعة المناسبة كان يجري اختبارًا باستخدام آلتي عرض، تعرضان على شاشة واحدة، آلة تعرض حركة سفينة الفضاء والأخرى تعرض المكوك، حتى اطمأن إلى التزامن المناسب لرؤيته.
رحلة الألوان
تقريبًا لا يوجد مشهد في هذا الفيلم لا يمكن الوقوف عنده وتحليل التقنيات المستخدمة فيه لكننا في النهاية نود التعرض للمشاهد التي كانت تعد فتحًا تقنيًا آنذاك، كما لا زالت تترك أثرها على المشاهد حتى الآن.
لا يمكن ذكر ”2001: أودسيا الفضاء“ دون الوقوف عند التتابع المعروف باسم ”Star Gate“ وهو الذي نشاهد فيه الشخصية الرئيسية تنتقل لبعد آخر، ونشاهد مزيجًا من الألوان الزاهية على الشاشة وانعكاسها على وجه البطل، في تتابع يستمر لأكثر من خمس دقائق.
كوبرك يبحث عما يمكن أن يعبر عن رحلة زمنية للإنسان وصولًا إلى بعد آخر، وهو أمر يتخطى حدود العلم المتاح، وبالتالي لا يمكن الاستناد إلى مرجع محدد في هذه الحالة.
كان الحل لدى مسؤول المؤثرات الخاصة دوجلاس ترامبل الذي طور تقنية أخرى للاستخدام في الفيلم لتحقيق التأثير المطلوب.
بمتابعة ما وصلت إليه أحدث التقنيات آنذاك، كانت هناك تجارب لفنان التحريك جون ويتني -الذي عمل من قبل على لقطات الدوامات في فيلم ”Vertigo“ (دوار)- الذي كان يترك عدسة الكاميرا مفتوحة لعدة دقائق بينما يضع أمامها مجسمات على طاولة تتحرك باستخدام محرك، وهو ما أنتج أشكالًا ملونة ذات طابع مميز.
من هذه النقطة بدأ دوجلاس ترامبل مطورًا تقنيته الخاصة، التي عرفت باسم ”Slit Scan“ (التصوير من خلال الشق).
صمم ترامبل لوحة ضخمة ملونة متحركة ووضع أمامها لوحا يحتوي على شق رأسي دقيق، وكانت الفكرة أن تصور الكاميرا من خلال هذا الشق.
بوضع الإضاءة خلف اللوح الملون وتحريكه يمينًا ويسارًا، وتحريك الكاميرا في الوقت نفسه لتقترب وتبتعد عن الشق، نجح ترامبل في الوصول إلى التأثير المطلوب.
الأمر يشبه فتح عدسة الكاميرا لتتلقى أكبر قدر ممكن من الضوء، وتصوير السيارات في الشوارع، ما سنشاهده في الأغلب هو خطوط وليس أجساما واضحة.
يروي دوجلاس ترامبل أنه طور ماكينة خصيصًا لصناعة هذا التتابع لتكرار العملية مرات ومرات، إذ أن اللقطة الواحدة كانت تأخذ خمس دقائق كاملة من العمل.
عودة أخيرة لكوبرك
يمكن كتابة الكثير والكثير عن هذا الفيلم، وتوجد بالفعل الكثير من الكتب عنه وعن مراحل صناعته، لكن ما يستحق التأمل الآن هو أن فيلمًا واحدًا كان فيه كل هذا الكم من الابتكارات والتطوير في صناعة السينما، فبعض التقنيات التي طُورت لهذا الفيلم استمرت مستخدمة بعده لسنوات وسنوات.
ستانلي كوبرك أعاد تعريف العالم بأفلام الخيال العلمي والفضاء، ويصعب تخيل أن يحول أي مخرج آخر القصة القصيرة التي قرأها كوبرك في البداية إلى هذا الفيلم الاستثنائي.
لم يرد المخرج الأمريكي لأحد أن يستغل مجسمات فيلمه بعد انتهائه منه فدمرها تمامًا، وعندما شرعت شركة MGM في التفكير في جزء ثانٍ للفيلم أرسل لهم خطاب تهديد جعلهم يتراجعون فورًا عن التجربة.
لا يمكن لأحد معرفة السر وراء ابتسامة الموناليزا، لكن على الأقل يمكن معرفة المواد التي استخدمت في صناعة هذه التحفة الخالدة.
المراجع:
1- Box Office Mojo website
2- Dan Chaisson, “2001: A Space Odyssey”: What It Means, and How It Was Made, The New Yorker, 2018/4/23
3- Phil Hoad, How we made 2001: A Space Odyssey, The Guardian, 2018/3/12
4- Tyler Knudsen, Cinema Tyler, How Kubrick made 2001: A Space Odyssey (parts 1 to 7)
5- Behind the News (YouTube Channel), How did Douglas Trumbull make the Stargate sequence in 2001 A Space Odyssey?
6- Filmmaker IQ (YouTube Channel), The History and Science of the Slit Scan Effect used in Stanley Kubrick’s 2001: A Space Odyssey
7- 2001: Sparks in the Dark, Director: Pedro González Bermúdez
8- 2001: The Making of a Myth, Director: Paul Jouc